لقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه أنزل القُرْآن عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه جعله عَلَى قسمين: محكم ومتشابه، فالسلف الصالح كـابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، والحسن وكثير من مفسري السلف فسروا المحكم كما في الدر المنثور في أول الجزء الثاني -وهو ينقل المأثور سواء كَانَ عن ابن أبي حاتم أو البيهقي أو البغوي أو الحاكم بالسند إِلَى من قال القول ويقول: قال السلف إن المحكم هو: الحلال والحرام والأمر والنهي ((مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7].
والمتشابهات: مثل الوعد والوعيد، وما يؤمن به ولا يعمل به كثير من السلف كما في الدر المنثور، يعبرون عن أنفسهم وعن حالهم مع كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ. يقولون: نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهة، ونتدبر أمثاله وأقسامه فبعضهم يقول: إذاً المحكم هو الحلال والحرام والأمر والنهي أي: ما نعمل به مثل: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) ومثل: ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ))[البقرة:228] ((إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ))[الطلاق:1] ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)) [المائدة:89] فهذه الآيات في الأحكام نعمل بها، وأيضاً في الأوامر والنواهي كما في الآيات التي في سورة الإسراء كالنهي عن الإسراف والتبذير والكبر والحقد والغل وغيرها من النواهي، والمتشابه مثل: الوعد والوعيد والأمثال، وكثير من النَّاس لا يفهم ما هو المراد بأمثال القرآن، ولكنه يؤمن به ويقول: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا))[آل عمران:7] وهذا قول أكثر السلف.
وقال بعض السلف رحمهم الله: المحكم هو الذي لم ينسخ، والمتشابه: المنسوخ، وهذا في الحقيقة جزء من ذلك، لأن الإحكام قد يقابل النسخ، فمثلاً سورة المائدة: قد روى الحاكم وصححه والنَّسَائِيُّ أن عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: هذه السورة من آخر ما نزل، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، أو: فإنها محكمة، أي: أن سورة المائدة محكمة. فليس فيها حكم منسوخ لأنها آخر ما نزل. بخلاف السور الأخرى التي نزلت من قبل فقد يكون فيها آيات منسوخة.
إذاً: فالمحكم يأتي مقابل المنسوخ كما في أصول الفقه، ولكن إذا جَاءَ المحكم مقابل المتشابه فمعناه الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً أو هو النص الواضح الجلي، والمتشابه: ما يلتبس معناه وما يخفى، وقوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)) [آل عمران:7] فهو ولا يريد الذين يتبعون المنسوخ بل الذين يتبعون ما تشابه منه مثل: الوعد والوعيد والأمثال والأقسام وأمثال ذلك مما قد يدق معناه ويخفى
ولهذا قَالَ: ((ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) وقد روي مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يصح رفعه "إنهم الخوارج" هكذا فسرها المفسرون من السلف، وقد جَاءَ في الصحيحين أن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها-: لما قرأت هذه الآية قالت: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" وكأن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْها- تشير إِلَى الخوارج "الحرورية" فهم مثلاً يتبعون قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44] فيجدون قاضي من قضاة الْمُسْلِمِينَ خالف أمر الله في مسألة فيقولون: هذا كافر، وآخر من الْمُسْلِمِينَ شرب الخمر فيقولون: هذا كافر؛ لأن معصية الله تَعَالَى عندهم كفر ويستدلون بقوله تَعَالَى :((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)) [الأحزاب:36] الضلال المبين هو الكفر كما في آيات أخرى.
إذاً: هذا كافر -هكذا يزعمون- فاتبعوا ما تشابه أي: ما تشابه معناه واحتمل عدة معاني، ولم يردوها إِلَى المحكم، ولو ردوها إِلَى المحكم لوجدوا أن في كتاب الله ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48] فالآية محكمة واضحة المعنى جلية لا التباس في معناها، وكذلك كلمة الضلال المبين والضلال البعيد تارة تطلق عَلَى الكفر وتارة تطلق عَلَى المعصية فقوله تعالى: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7] الضالين: اليهود كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واليهود كفار.
والضالين أيضاً تلطق عَلَى الخارجين عن السنة إِلَى البدعة ((قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ)) [القلم:26] أي: لمخطئون، تائهون عن الطريق، والمقصود هنا: أن الضلال يأتي بمعنى: الخطأ والذنب والكفر، لكن هذه الآية محكمة ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48] فتدل عَلَى أن صاحب الكبيرة تحت المشيئة يغفر الله له إن شاء أو يعذبه إن شاء، وأما قوله تعالى: ((ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) [آل عمران:7] فهَؤُلاءِ ابتغوا الفتنة كـالخوارج وأمثالهم وابتغوا المتشابه؛ كما قيل: إن النَّصَارَى قالوا: إن في القُرْآن ما يدل عَلَى أن الآلهة ثلاثة كما في قوله:
((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)) [الحجر:9] قالوا: ونحن عَلَى الجمع وأقل جمع ثلاثة إذاً هو ثلاثة كما في التوراة، يقال لهم إن: معنى "نحن" متشابه، فالواحد المعظم لنفسه يقول: نحن، والجماعة يقولون: نحن، وهذا لا يلتبس بكتاب الله؛ لأننا نرده إِلَى المحكم، وهو قوله:
((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[البقرة:163]
((إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[الأنعام:19]
((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)) [المائدة:73].
وكذلك من التبس عليه قوله تعالى:
((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))[الطور:48] وقوله:
((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ))[ص:75] فنردها إِلَى الأصل الثابت
((ليس كمثله شيء)) وليس ذلك لأن الآية متشابهة، فإن آيات الصفات ليست من المتشابة، ولكن قد يشتبه في الذهن معناها فنردها إِلَى المحكم.
وإذا أضفنا قوله:
((ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) إِلَى قوله:
((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) فمعنى ذلك أن الذين يتبعون الفتنة يظنون أنهم سيعلمون كيفية حقائق الأسماء والصفات، وحقائق الجنة والنَّار والوعد والوعيد، في حين أنه لا يعلمها إلا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والراسخون في العلم يقولون في أمثال هذه الحقائق:
((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) أي: ما فهمنا معناه وما كَانَ واضحاً جلياً لنا؛ وما كَانَ في أخبار الآخرة، أو ما كَانَ في حقائق الأشياء، أو ما كَانَ مما يدق علينا أن نفهمه
((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) والراسخون في العلم يقولون ذلك عَلَى المعنى الآخر
((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) أي: أن أهل البدع الذين يتبعون المتشابهات ليسوا من الراسخين في العلم، وخطؤهم يأتي من جهة أنهم لا يفهمون كتاب الله، ولا يرجعون الأمر إِلَى الراسخين في العلم، كما قال الله تعالى:
((فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْر)) [النحل:43].
فالله تَعَالَى يذمهم بالجهل، ويعيب عليهم أنهم لا يعلمون هذا التأويل، وتأويله لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، وأولئك الذين يتبعون الفتنة ليسوا من الراسخين في العلم، ومن هنا يخرج قول
ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما قَالَ: (أنا من الراسخين في العلم) فـ
نافع بن الأزرق الذي أوَّل كتاب الله، واستحل دماء الْمُسْلِمِينَ، لو ردَّ هذه الآيات إِلَى الراسخين في العلم من آيات الوعد والوعيد وغيرها إِلَى أمثال
ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما لما وقعت الفتنة، ولكنه ردها إِلَى عقله وهواه، فقَالَ: هَؤُلاءِ كفار واستحل دمائهم وأموالهم.
فلذلك ذهب المُصنِّف إِلَى أن الأرجح في الآية: أن يكون التأويل فيها بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء إذا وقفنا عَلَى قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))ويكون الوقف عَلَى ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) إذا كَانَ المقصود بالتأويل هو المتشابه الإضافي.